الفصل الرابع
(حين تُنكر نفسك، لا يمكنك التعرف على أحد، قد تتحمل خصومتك مع آخرين، حتى أقرب الناس إليك، لكن خصومتك مع نفسك مدمرة، تفقدك بوصلتك وطريقك وغايتك )
القاهرة، شتاء 2006
ودعت القاهرة بعد ما حزمت متعلقاتى في حقائبى وهمومى وخيباتى وجراحاتى في صدرى، نزلت بيروت غريبًا وجريحًا؛ أنختُ رواحلي عاقدًا العزم أن تكون مستقرى ومستودعى؛ وسكنى وإقامتى، بلد عربى متعدد الثقافات جامع لأطياف عربية وغربية، لا تشعر فيه بتمام الغربة، وعلى بعد خطوة من القاهرة؛ فقط ساعة زمن بالطائرة، أقصر مما احتاجه للسفر من القاهرة إلى قريتنا، خلاف ذلك تُذكرني بأجواء الأسكندرية وليالها الممطرة شتاءً.
هيأت نفسى على تحمل آلام فراق أمى وأبى، مكتفيًا بزيارات سنوية تطول لأسبوعين أو ثلاث، وأخرى خاطفة على هامش سفريات عمل سواء للقاهرة رأسًا أو مرورًا بها. اتخذت قرارى الداخلى بالرحيل عازمًا الاستقرار، فإذا اضطررت للعودة فلتكن مؤقته. ظننت أن القرار بيدى، لم انتبه إلى ذلك الترابط بين تجاربي العاطفية والرحيل؛ الرحيل من القرية، ومن الأسكندرية، ومن القاهرة، ثم بيروت، وخلف كل منها قصة فشل.
- يعنى تسافر وأنا قلقانة عليك يا بنى،
قالت أمى من خلف ستائر دمعها وأنا أودعها، وحدى القادر على ملء خزان دمعها لأيام وليال. قبل رحيلى إلى بيروت نزلت القرية لساعات قلائل، كان بداخلى شيء يلح على كي أهرب، ويرفض الصلح مع نفسي؛ حين تُنكر نفسك لا يمكنك التعرف على أحد، قد تتحمل خصومتك مع آخرين، حتى أقرب الناس إليك، لكن خصومتك مع نفسك مدمرة، تفقدك بوصلتك وطريقك وغايتك.
تركت أمى في لوعتها وأبى بطعم الحسرة في حلقه، لم تكن جراح انفصالي عن غادة قد اندملت بعد؛ زواج قصير وسريع، مؤلم في تفاصيله، صادم في حقائقه، حين اتخذت قرار الانفصال، لا، بل حين اتخذنا قرار الانفصال معًا، لم يفكر أى منا في حجم خسائره، شُغل كل طرف بالوصول إلى خط النهاية؛ نقطة فاصلة يتحول فيها كل منا إلى ماض لدى الآخر، يحذفه من قائمة خصوصياته، يصبح غريبًا عليه، مثله مثل آخرين كُثرُ لا تنشغل بخصوصياتهم، لا يهم ما تعرفه عنهم ولا مقدار ما تدركه من أسرارهم وخصوصياتهم التى انفردت بها وحدك ذات يوم، عليك بنسيان كل هذا، تلقيه جانبًا عند أقرب زاوية.
لا يصبح حتى من حقك التفكير في ماض شاركت في صنعه وكنت جزءًا رئيسًا فيه، تحنطه؛ تلفه بشرائط الكتان، وتصب عليه من الصمغ المقدس، وتقرأ عليه تعاويذ الأبدية، وتدفنه بالبر الغربى لذاكرتك العليلة، أو تضعه في صناديق عتيقة من خشب الصندل وتربطها بكتل من صخر صوان وتلقى بها وسط أمواج نفسك الهائجة وريح أفكارك العاتية وضباب مستقبل كثيف يطبق على الأُفق، فلا تعرف أين استقر ولا متى تنفك طلاسمه، ولا لمن يفتح من جديد.
تنحصر حياتك الاجتماعية في شخصك فقط، لا شيء آخر تذكره؛ لا سيدة أو خطيبة، أو حتى حبيبة تعطر فمك بحروف اسمها. لا ذكريات خاصة ولا عامة تربطك بالطرف الآخر، لا تنتظر رسائلها المعلقة في مناقير عصافير الحسون الملكية، وصباحاتها الندية المعطرة بزهور البرتقال، تترقب غدوها ورواحها على إيقاع خلاخيلها الفضية، إشراقها حين يغرب الكون عنك، سفرك مع شعرها الممتد بلون فدادين الحنطة في مواسم الحصاد إلى بلاد لم يدخلها غيرك ولم يرفع رايات النصر عليها أحدًا سواك؛ مدينتك وقارتك، سهولك وجبالك، حدائق عزك وصحراء وحدتك، فيها أُنس الحيارى وسكن التائهين، تمسك بيدها حين تتأرجح كفك في الفراغ باحثة عن أنيس وعن سند.
احترفت الهزائم في الحب، لو وجد على كوكب الأرض مملكة للمجروحين والمكسورين لنصبونى ملكًا عليها عن جدارة، أحمل في زهو أوسمة خيباتى على صدرى وأطوف بها في كل الدنيا، رحلة طويلة بدأت من حب أفلاطونى في القرية لم يتخط نظرات العيون ومتابعة الخطو من بعيد، إلى آخر في بيروت بلغ منتهاه.
تفرقت بهن السبل، لم يطقن انتظارًا مع ذلك المحطم حبًا، الخاسر عِشقًا، الحالم دومًا، هذه مع زوج ترهل غنىً، وتلك مع آخر إلى الخليج، وثالثة مع آخر إلى بلاد الضباب، ورابعة لا أعرف أين استقر بها المقام، وخامسة وسادسة، سلسلة لا تنتهى من قصص الخيبات، ونفس تتقن فنون التنازل والإيثار لتدارى قلة حيلتها واختبائها المتكرر خلف مشربيات الخجل.
حين وضعت خاتم الزواج على الطاولة أحسستنى أُخرج رأسى من تحت الماء واستنشق نفسًا عميقًا بينما يئن صدرى من ثقل جبل هموم؛ نَفَسْ التخلص من حالة الاستمرار أم الانفصال، أرجوحة لا تشعر معها براحة، في كثير من الأحيان يصبح اتخاذ أى قرار رحمة، لا يهم إن كان صائبًا أم خاطئًا، المهم أنك اتخذت قرارًا يترتب عليه إجراءات تضعك على الضفة الأخرى حتى وإن اكتشفت خطأ حساباتك وأن ما ظننته ثمنًا يسيرًا ليس سوى قمة جبل خسائر يمتد راسخًا إلى قاع محيط الواقع، مع الوقت تعتاد تقريب الأمور وتهوين الخسائر، سوف تلتمس لنفسك ألف ألف عذر؛ ليس دفاعًا عن قرار خاطئ، وإنما اعترافًا ضمنيًا بالمسئولية، لكنك لن تنسى أبدًا شجاعتك في اتخاذ القرارات الكارثية في الأوقات العصيبة.
حين أراجع قرار الانفصال واسأل نفسي، أأخطأت أم أصبت ؟، أجد ألا طائل من المراجعة، فات الأوان، اختلط الحابل بالنابل. منذ غام وجه أبي حين رأى غادة أول مرة؛ وعجزت عن فهم لغة الصمت التى يجيدها مع أمى، وتفَلَتَه من اسئلتي وإلحاحى ليصارحني بما أزعجه، كان يجب في هذه اللحظة أن اتخذ طريقًا غير طريقها.
أنطفأت في عيني أبى فرحة مصاحبة ابنه لخطبة عروسه المنتظرة، العروس التى حلم بها مرة سمراء بلون حبوب القمح وطويلة كساق البامبو، وعينان خضراون بلون كيزان الذرة، وشعر بلون شعاع الشمس حين يُقبل أرض أبى وقت العصارى، ويقف على أغصانها الندية عصفور الدورى وأبو فصاد.
ذهبت أحلامه هباءً منثورا وانحنت قامته بفعل الزمن، تآكل هيكله الضخم الذى طالما رأيناه عن بعد بطوله الفارع، فنختبيء كفئران صغيرة، يعكس وجهه الأسمر تضاريس أرضه، لطالما تخيلت ذراعه الطويلة المتينة وكفه الكبير فأسًا يحفر بها أرضه ويعزقها فتستقيم له، يمشى ناظرًا إلى بعيد نحو هدف لا يراه غيره. عاش يحلم ويدافع عن أحلامه.
بعد الانفصال، لم تكف أمى عن إلحاحها لمعاودة المحاولة وأنا استمهلها برد لم تتغير كلماته؛
- كله بأوان يا ماما
فتجلس مكلومة محزونة قليلة الحيلة أو تحاول الانشغال بمسبحتها عن ملل إجاباتي المكررة، لا تدرى ما تفعله مع ابن تجرى به الأيام وهو عنها لاه، تراه لـِمامًا على مدار العام؛ اجازات خاطفة ومكالمات تليفونية مبتورة، وربما التفتت إلى أبى مستنجدة،
- قوله حاجة ؟!
ثم تردف،
- الأيام تجرى وابنك لا يدرى!
ينظر إليها هادئًا مبتسما ليخفف عنها، ويجيبها في هدوء،
- هو أدرى با للي يناسبه .. ابنك كبر وفات أوان اننا نختار له !!
- ......
وقد يستبد بها الضعف فلا تتمالك نفسها ويهطل دمعها وأنا أُحادثها في الهاتف، تتناوب عض شفتيها كى لا يخرج صوت نحيبها، فقط يهتز صوتها فأعرف أنها ريثما تضع سماعة الهاتف سوف تغسل أرضية بيتها بمطر دموعها.
بعد زيارتنا الأولى لبيت غادة وتعقيبات أبى الصامتة، ألقيت بنفسى في طاحونة الاستعداد للزفاف بتفاصيلها الكثيرة المتشعبة فألهتنى عن التفكير في تفسير نظرات أبى وأمى؛ بينهما لغة لا يفهمها سواهما، لم يبتكراها متعمدين لكنهما راحا يراقبان بعضهما البعض في صمت، ويدونا في الذاكرة معانى الرموز والاختلاجات، اضطراب الوجه والشفتين وتلك الغمامة التى تحط أحيانا على وجهيهما، انحباس الصوت رغما عنهما، انحناء الرأس وميلها، النظر من طرف العين المائلة، حركة أحد الذراعين فجأة وكأنه يهش ذبابة، وغيرها من إشارات أضافاها إلى قاموس صمتهما المشترك على مدار الأيام، أبجديات جديدة تغنيهما عن الكلام.
في النهاية، وجدتنى وغادة عروسان يزفان في أحد أكبر فنادق العاصمة تلمع من حولههما الأضواء والوجوه والملابس والمجوهرات، يتلقيان التهانى من الحضور، لم أنتبه إلى من هنأنى ولم اتذكر من حرص على التقاط صورة معنا؛ حتى أخوتى، أخى الأكبر واختى الأصغر منى، لم انتبه لهما ولا لأولادهما، كنت مشغولاً بمتابعة ملامح أبى وأمى، متلهفًا لرؤية وجهيهما وقد تبدل حالهما، ولكن .. يا للأسف ظلت تلك الغمامة الرقيقة على حالها؛ تأبى الرحيل، لم تفلح ريح الفرح في إزاحتها ولو قليلاً، كانت واضحة لى رغم خمار السرور المنسدل على ساحة وجهيهما والترحيب الكريم بالضيوف.
انفصلنا وانتهي الأمر، انفصلنا ونسيت عادتى الصباحية في ارتداء ملابسى دون أن أصدر صوتًا حتى لا تستيقظ؛ أتحسس قميصًا من دولاب ملابسى وأسحبه ببطء، امتعض حين تصدر الضلفة صريرها المعتاد؛ كم مرة طلبت منها أن تضع نقطتى زيت علي مفصلاتها المعدنية أو تذكرنى حين أعود من العمل لتزيتها، عليها أن تتحمل نتائج النسيان، تتململ في السرير، يمتد خيط ضوء ضعيف إلى الغرفة لا أتبين منه لون البدلة التى أنوى ارتدائها؛ أُضيء شاشة هاتفى المحمول، أسحب الشماعة وأكمل ارتداء ملابسى، أكرر المحاولة لاختيار ربطة عنق.
- صباح الخير
- .........
يأتينى صوتها مفعمًا بالنعاس، بعكس اتجاه وجهها أُضيء نور الأباجورة المقابل لظهرها حتى لا يضايقها الضوء، نتبادل كلمات قليلة عن متى أعود، وهل ستزور والدتها أم تقابل بعض صويحباتها، أُقبلها على عجل كى ألحق بموعد عملى؛ فيزكمنى عطرها ممزوجًا برائحتها الخاصة، يتهادى خلفى صوت أنفاسها وقد راحت في سبات عميق، ألملم حاجياتى وأضعها في حقيبة العمل مع بضع حبات فواكه أتناولها في منتصف اليوم أو كوب زبادى، ألقى نظرة سريعة على الشقة ثم أغادر.
من الطبيعى أن تختلف نظرة أى زوجين للأولويات، لكن توافقهما واستمرار حياتهما معًا مرهون بالتوافق على أكبر نسبة من هذه الأولويات؛ تلك كانت مأساتى مع غادة، اكتشفت أثناء خطوبتنا تباين الكثير من عاداتنا واهتماماتنا، وكأى خطيب نظرت لتلك الاختلافات نظرة مليئة بالمحبة، أذكرها في بعض جلساتنا مع الأصدقاء مقرونة بشيء من ابتسام حينًا، ونثرًا لبعض من بهارات حب لا يفسد علاقتنا قدر ما يزكيها ويجعلها أكثر قبولا حينًا آخر، حتى عندما اكتشفت أن نقاط اختلافنا أكثر من توافقنا، لم أُعر ذلك أى اهتمام، انتظرت أن يتكفل الزواج بتسوية كل تلك النتوءات الصغيرة.
كيف صغرت في عينى ورأيتها نتوءات، ألهذه الدرجة يؤثر فينا سحر الحب، نرى ما حولنا بعينيه، تتغير الأبعاد والمسافات وفقًا لما يهوى القلب، يا لشقاء العقل وصبره. أخلصت في حبى لها، وكذلك هى، إلا أن الإخلاص لا يضمن استمرار العلاقة بين اثنين؛ التوافق يضمنها، يطيل عمرها، يمنحها تاريخ صلاحية يتجدد تلقائيا ويختمها بخاتم الأمان فلا يضطرب قارب حياتهما؛ مهما صغر حجمه وعلا ما يواجهه من موج.
عندما كنت أحكى لأمى عن هذه المفارقات عبر مكالماتى الهاتفية متندرًا وضاحكا، يأتينى صوت تنهدها عميقًا مجروحًا متبوعًا بدعوة أن يهدينا الله لبعضنا البعض، أُأَمن خلفها بعفوية؛ لم أفهم مغزى أدعيتها إلا بعد زواجنا وتفاقم مشكلاتنا وإيماننا -أنا وغادة- أن الانفصال، رغم متاعبه، أسلم طريق لكلينا، لذلك انفصلنا في هدوء؛ توافقنا على كل شيء كأننا نستعد لحفل زفاف وليس إعلان انفصال، ربما حاز قرارنا هذا على أعلى نسب التوافق فيما بيننا من أمور.
بعد ما انتهى الأمر وأطلقنا معًا رصاصة الرحمة على زواجنا سلمت عليها قائلا؛
- كنت أتمنى أن نتوافق على الاستمرار وليس على الانفصال
فأجابتنى بصوت خافت؛
- ربنا يوفقك
- ..........
انتابنى بعدها إحساس مُلح للرحيل؛ سافرت بضعة أيام لبيروت ضمن إطار عملي الروتيني، فانتابنى إحساس قاهر لمغادرة المحروسة، كأنما في داخلى كائن يدفعنى ويُلح علىّْ، ومع أول فرصة رحلت.
سافرت دونما أودع بلابل الصباح التى كانت تنظرنى كل يوم مؤكدة بكورها وأسبقيتها في الاستيقاظ وجاهزيتها للحب فتصحو العصافير على أنغامها. يشرق النهار فاتحًا صدره للمقبلين على الحياة فيفتح المكسورين والمقهورين عيونهم أملاً في يوم يطبطب على قلوبهم.
إلى لقاء في فصل جديد